تعليقات الخاصة بـ
article
يوم خذلتني الفراشات
-
زياد أحمد محافظة
مقال الناقد والروائي الدكتور محمد براده
- 24/07/2012
الروائي والناقد الدكتور محمد برادة
صحيفة الحياة اللندنية- الجمعة 20 يوليو 2012
لعل «يوم خذلتني الفراشات» (دار الفارابي) للأردني زياد أحمد محافظة، هي روايته الأولى التي تفاجئنا بنضجها ورؤيتها ذات الدلالات الموحية. يأتينا النص على لسان راو أو سارد يفضل ألا يذكر اسمه، مكتفياً بذكر اسمِ منذر الفاتح الذي هو بمثابة قرينه أو ضميره المتربص بأخطائه، الحريص على نقاء سلوكه. بعدما بلغ الستين من عمره واقترب من القبر، يستعيد السارد مسار حياته منذ الطفولة إلى أن أصبح رئيس حكومة في نظام استبدادي يصطنع واجهات ديموقراطية مزيفة، ويحتكم إلى أواليات صارمة لاستدامة السلطة وتأبيدها ضمن دائرة تتقن حماية مصالح الاستغلال والقوى المتحالفة معه... لكن الكاتب يوحي أكثر مما يصرح، ويشخص السلوكات والمواقف قبل أن يفضح.
الراوي والقرين
ما يسترعي الانتباه في البناء السردي في «يوم خذلتني الفراشات» هو أن السارد يستحضر من حين الى آخر، منذر الفاتح الذي يضطلع بدور القرين المنتقد لمواقف السارد الانتهازية: «أعلم أن حالة من الفوضى ستنتابني حين أستحضره. نار تدبّ في مسام الجلد تشعله؛ لكنه حريق علي إيقاده وقبوله». ص 26. وهذا الحضور المقلق للقرين هو ما جعل السارد يطلق رصاصتين على منذر، ليتخلص من انتقاداته ويؤكد في الآن نفسه الموت الرمزي لتلك الروح الطفولية الشغوف بالمعرفة والمعجبة بصلابة الأب المناضل الرافض.
على رغم أن مشاهد او فضاءات «يوم خذلتني الفراشات» تستوحي الواقع السياسي والاجتماعي في الأقطار العربية، فإن تشكيل النص يحتوي على عناصر تخييلية تضفي عليه مسحة شعرية وإيقاعاً يحاكي بسخرية أجواء السلطة البطريركية المتعلقة بالفخفخة والأبهة. ويعمد السرد أيضاً إلى تكسير التوالي الزمني وتوظيف الاسترجاع والاستطراد، وإدماج حوارات السارد مع قرينه؛ وكلها سمات تبرز التعقيد الذي يطبع رجل السلطة، فلا يبدو مجرد شخص فاقد للشعور، متكالب وجشِع. على العكس، يبدو السارد طوال حياته موزعاً بين قيم الطهارة والنقاء وقيم الانتهاز والاستمتاع. وهو صراع يتكشف من خلال الحوار المستمر مع القرين.
على مستوى الدلالة، تقدم «يوم خذلتني الفراشات» نموذجاً لرجل السلطة والتحايل عليها في الأقطار العربية بعد الاستقلالات: هناك استخدام لكل الوسائل في سبيل حماية المصالح الخاصة ومصالح المجموعة المغتصبة للسلطة من طريق تزييف القيم والشعارات والاستناد إلى الدعم الخارجي المتواطئ مع الاستبداد.
من هذا المنظور، تكون الرواية تجسيداً للدولة المفرغة من روحها ورسالتها لأنها لا تمثل المجتمع المدني وتعوق إقرار الديموقراطية... لكن ميزة هذه الرواية هي أن الكاتب يتوسل بمحكيات وأحداث ملتصقة بنماذج بشرية تعيش التاريخ من زاوية تخصيصية، فلا نحس أنها أفكار مسقطة على الشخصيات. من هنا، جاز القول بأن «يوم خذلتني الفراشات» تقع على تخوم السياسة والتاريخ وسبر أغوار النفس البشرية. بعبارة ثانية، هي تمت بصلة إلى السياسة لأنها تقدم أنموذجاً للعبةِ الوصول إلى السلطة والتحايل للحفاظ عليها، كما هو الحال في البلدان العربية «المحصنة» ضد الديموقراطية؛ وهي تمت إلى التاريخ لأنها تؤرخ على طريقتها لهذه الفترة من حياة المجتمعات العربية. مِن ثم جاز القول إن «يوم خذلتني الفراشات» تضطلع بملء ذلك الصمت الذي يتحدث عنه المؤرخ الفرنسي الشهير ميشليه (1798-1874) عندما يقول: «علينا أن نحمِل صمت التاريخ على الكلام، أي تلك اللحظات المهولة التي يكف فيها عن القول، والتي هي بالضبط لحظاته الأكثر مأسوية».
على هذا النحو، تكون رواية «يوم خذلتني الفراشات» قد استأنفت الكلام من حيث صمت تاريخ